11 ـ النيـّـةُ شَــرْطٌ لِسَـائرِ العَمَـلْ بِهــا الصَــلاَحُ والفَســادُ للِعَمَــلْ
هـذه هـي القاعـدة الأولـى :
( النيـّـةُ ) : العـزم والقصـد ، نـوى كـذا بمعنـى قصـده ، فمـن قصـد شـيئًا ، وعــزم علـى فعلـه
فقـد نـواه . وهـذا الـذي يقصـده جمهـور الفقهـاء الذيـن تكلمـوا فـي مسـائل النيـة .
أمـا فـي الاصطـلاح : فهـي مرادفـة للإخـلاص ؛ إذ بينهمـا عمـوم وخصـوص مطلـق . فالنيـة : أعـم مطلقًـا مـن الإخـلاص ، فتشـمل نيـة الريـاء والشـرك والإخـلاص وغيـر ذلـك .
والإخـلاص : أخـص مـن النيـة لأن معنـاه إخـلاص النيـة مـن شـوائب الشـرك والريـاء ، وإفـراد الله بالقصـد والإرادة .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 34 / بتصرف .
والنيـة كمـا قـال أهـل العلـم : تَشْـرُد ، فالإنسـان يحتـاج إلـى معاهدتهـا ، وعلـى مجاهـدة النفـس مـن أجـل تصحيحهـا وتنقيتهـا وتجريدهـا لله عـز وجـل .
القواعد الفقهية ... / شرح : خالد الصقعبي / ص : 19 .
وبـدأ الناظـم بما يتعلـق بالنيـة تنبيهًـا للقـارئ إلى اسـتحضارها وتخليصهـا قبـل البـدء بهـذه القواعـد .
وقـد اسـتحب جماعـة مـن السـلف بـدء المصنفـات بحديـث النيـات لهـذا المعنـى ، كمـا فعلـه الإمـام البخـاري فـي صحيحـه .
( شَــرْطٌ ) : الشـرط مـا يلـزم مـن عدمـه العـدمُ ، ولا يلـزم مـن وجـوده وجـودٌ ولا عـدم لذاتـه . والشـرط خـارج العمـل .
مثالــه : الطهـارة شـرط فـي صحـة الصـلاة ، فـلا يلـزم مـن وجـود الطهـارة وجـود صحـة الصـلاة
ولا عدمهـا .
ويلـزم مـن عـدم الطهـارة عـدم صحـة الصـلاة .
فالنيـة شـرط . وقيـل ركـنٌ ، والأول هـو الصحيـح ؛ لأنهـا ليسـت جـزءًا مـن العمـل .
والشـرط والركـن : يجتمعـان : فـي انعـدام صحـة العمـل عنـد عدمهـا .
ويفترقـان : فـي أن الركـن جـزءٌ مـن حقيقـة الفعـل وماهيتـه ، كالركـوع فـي الصـلاة .
وأمـا الشـرط فإنـه خـارج عـن حقيقـة الفعـل وماهيتـه ، كاسـتقبال القبلـة أثنـاء الصـلاة .
قـال بعـض العلمـاء :
الركـنُ مـا فـي ذات الشـيء ولجـا والشـرط عـن ماهيتـه خرجـا 0
لكـن كلاهمـــا إذا مـا انعدمـــا انعدمـــت حقيقـــةٌ معهمـا 0
( ِسَـائرِ العَمَـلْ ) : لفــظ ( سـائر ) يأتـي فـي اللغــة ، بمعنـى ( كــل ) باتفــاق ، ويأتـي بمعنــى ( الباقـي )
وعلامـة الأول ـ أي بمعنـى " كـل " ـ : ألا يتقدمـه ذكــر شـيء معيـن يعتبـر فـردًا مـن أفـراد مـا بعـده ، كقولهـم : ( سـائر الطـلاب مجتهـدون ) .
وعلامـة الثانـي ـ أي بمعنـى " الباقـي " ـ : أن يتقدمـه ذِكـرُ شـيءٍ معيـن هـو فـردٌ مـن أفـراد مـا بعـده ، كقولهـم : ( زيـدٌ مجتهـدٌ وسـائر الطـلاب كُسـالى ) .
والمـراد هنا ـ أي فـي هـذه القاعـدة ـ المعنـى ـ الأول ، فيكـون المعنـى ، ( النيـةُ شـرطٌ لكـل الأعمـال ) وبهـا يُحكـمُ علـى العمـل بالصـلاح أو الفسـاد . ويسـتثنى مـن هـذا العمـوم أمـران :
§ الأول : التُّـرُوك ، كتـرك الزنـا ، وتـرك القتـل ، وتـرك سـائر المعاصـي ، فهـذه التـروك داخلـة فـي الأعمـال مـن جهـة اللفـظ ، لأن التـرك نـوع مـن أنـواع الفعـل كمـا قـال تعالـى :
{ كَانُـواْ لاَ يَتَنَاهَـوْنَ عَـن مُّنكَـرٍ فَعَلُـوهُ لَبِئْـسَ مَـا كَانُـواْ يَفْعَلُـونَ } . سورة المائدة / آية : 79 .
فالنيـة ليسـت شـرطًا فـي صحـة التـروك ، فكـل مـن تـرك المعاصـي فذمتـه بريئـة مـن الإثـم ، ولكـن لا ثـواب لـه علـى التـرك إلا بنيـة الامتثـال ـ ( أي التـرك امتثـالاً للنهـي ) ـ .
§ الثانـي : الأعمـال الدنيويـة المحضـة : التـي يحصـل المقصـود منهـا بمجـرد الفعـل ، ولا يتوقـف علـى النيـة ، كـرد المغصوبـات ، والديـون والأمانـات إلـى أهلهـا ، فـإن المقصـود هـو رجـوع المـال إلـى صاحبـه ، وهـذا يحصـل بمجـرد الـردِّ ، ولا يتوقـف علـى النيـة 0 وكذلـك النفقـة علـى الزوجـة والأولاد يقصـد بهـا سـد حاجتهـم ، وهـذا حاصـلٌ بمجـرد الفعـل دون توقـف علـى نيـة الامتثـال ، ولكـن لا ثـواب إلا بنيـة .
* فعـن الزهـري قـال : حدثنـي عامـرُ بـن سـعد ، عـن سـعد بـن أبـي وقـاص ، أنـه أخبـره أن
رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال : " إنـك لـن تنفـق نفقـة تبتغـي بهـا وجـه الله إلا أُجِـرتَ عليهـا ، حتـى مـا تجعـل فـي فـم امرأتِـك " .
صحيح البخاري . متون / (2) ـ كتاب : الإيمان / (41) ـ باب : ما جاء إن الأعمال بالنية ... / حديث رقم : 56 / ص : 17 .
والناظـم فـي هـذا البيـت يشـير إلـى القاعـدة الكليـة الكبـرى ( الأمـور بمقاصدهـا ) ، بمعنـى أن تصرفـات المكلَّـفِ تختلـف أحكامهـا باختـلاف مقصـود الشـخص ونيتـه فيهـا .
مثـــال ذلــك :
مـن وجـد مـالاً مفقـودًا ، فـإن أخــذَه بنيـة التملـك لنفسـه يكــون غاصبًـا ، ويلزمـه الضمـان عنـد التلـف . وأمـا مـن أخـذه بنيـة الحفــظ ، وقصـد التعريـف ، ـ لُقَطَــة ـ ، فإنـه يكــون أمينًـا ، ولا يضمـن المـال عنـد التلـف إلا بالتفريـط .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
* ثلاثـة أشـخاص قتلـوا ثلاثـة أشـخاص :
الأول : قتـل شـخصًا عمـدًا وعدوانًـا ، فهـذا يُقتـل .
الثانـي : شـبه العمـد أي أراد إيـذاء المقتـول لا قتلـه ، أو خطـأ : كمـن أراد يرمـي صيـدًا فقتـل إنسـانًا ، فهـذا عليـه كفـارة .
الثالـث : أمـر بقتـل فـلان مـن النـاس حـدًّا ، فهـذا لا شـيء عليـه .
فالأول قَتَـلَ عمـدًا ؛ والثانـي شـبه عمـد أو خطـأ ؛ والثالـث مـأذون لـه فـي ذلـك ، فصـورة العمـل واحـدة كلهـا قتـل ؛ لكـن النتيجـة والتبعيـة اختلفـت لاختـلاف النيـة .
منظومة القواعد ... / شرح : خالد إبراهيم الصقعبي .
ـ وشـواهد هـذه القاعـدة كثيـرة جـدًا فـي الكتـاب والسـنة :
· أمـا مـن الكتـاب :
فقولـه تعالـى : { وَمَـا أُمِـرُوا إِلاَّ لِيَعْبُـدُوا اللهَ مُخْلِصِيـنَ لَـهُ الدِّيـنَ حُنَفَـاءَ ... } .
سورة البينة / آية : 5 .
وقولـه تعالـى : { ... وَمَـن يَفْعَـلْ ذَلِـكَ ابْتَغَـاء مَرْضَـاتِ اللهِ فَسَـوْفَ نُؤْتِيـهِ أَجْـراً عَظِيمـاً } .
سورة النساء / آية : 114 .
وقولــه جــل شـأنه : { لاَّ يُؤَاخِذُكُـمُ اللهُ بِاللَّغْــوِ فِـيَ أَيْمَانِكُـمْ وَلَكِـن يُؤَاخِذُكُـم بِمَـا كَسَـبَتْ
قُلُوبُكُـمْ ... } . سورة البقرة / آية : 225 .
فهذه الآيـات ونحوهـا تـدل على وجـوب النيـة في جميـع الأعمـال ، وأن المـرءَ مؤاخـذٌ بما قصـد قلبـه .
· وأمـا مـن السـنة :
* قولـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم :
" إنمـا الأعمـال بالنيـات وإنمـا لكـل امـرئ مـا نـوى ، فمـن كانـت هجرتـه إلـى دنيـا يصيبُهـا أو إلـى امـرأةٍ ينكحُهَـا فهجرتـه إلـى مـا هاجـر إليـه " .
صحيح البخاري . متون / ( 1 ) ـ كتاب : بدء الوحي / ( 1 ) ـ باب : كيف كان بدء الوحي إلى ... / حديث رقم : 1 / ص : 9 .
ويكفـي أن نعلـم أن هـذه القاعـدة بنيـت علـى هـذا الحديـث ، فمكانتهـا ـ أي القاعـدة ، بمكانـة هـذا الحديـث ونذكـر طرفًـا ممـا جـاء فـي مكانـة هـذا الحديـث :
* فهـذا الحديـث قاعـدة مـن قواعـد الإسـلام العظيمـة ، اتفـق العلمـاء علـى صحتـه وتلقيـه بالقبـول .
وبـه صـدَّرَ البخـاري كتابـه الصحيـح وأقامـه مقـام الخطبـة لـه إشـارة منـه إلـى أن كـل عمـل لا يُـراد بـه وجـه الله تعالـى فهـو باطـل لا ثمـرة لـه فـي الدنيـا ولا فـي الآخـرة .
وهـذا الحديـث هـو أحـ.د الأحاديـث التـي عليهـا مــدار الديـن ، وقـد رُوي عـن الإماميــن الجليليــن " الشـافعي " و " أحمـد " رحمهما الله ، أنـه ثلـث العلـم وثلـث الإسـلام ، لأن كسـب العبـد بقلبـه وبلسـانه وبجوارحـه ، فالنيـة أحـد الأقسـام وهـي أرجحهـا ، لأنهـا تكـون عبـادة بانفرادهـا .
وقـال عبـد الرحمـن بـن مهـدي عليـه رحمـة الله تعالـى : ينبغـي أن يُجعـل هـذا الحديـث رأس كـل
بـاب .
القواعد الفقهية ... / للسعدي / شرح خالد الصقعبي .
* عـن نافـع بـن جُبَيـرِ بـنِ مُطْعِـم قـال : حدثتنـي عائشـةُ ـ رضي الله عنها ـ قالـت : قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" يغـزو جيـش الكعبـة ، فـإذا كانـوا ببيـداء مـن الأرض يُخسَـفُ بأولِهـم وآخرِهـم " 0 قالـت : قلـتُ : يـا رســول الله كيـف يُخسـف بأولهــم وآخرهــم وفيهـم أسـواقُهم ومَـن ليـس منهـم ؟ . قــال :
" يُخسـفُ بأولهـم وآخرِهـم ثـم يبعثـون علـى نياتِهـم " .
صحيح البخاري . متون / ( 34 ) ـ كتاب : البيوع / ( 49 ) ـ باب : ما ذُكر في الأسواق / حديث رقم : 2118 / ص : 239 .
وللمزيـد يُرجَـع لكتـاب : ريـاض الصالحيـن ؛ ( 1 ) بـاب الإخـلاص وإحضـار النيـة .
o تنبيـــه :
ـ يجـب التنبيـه هنـا علـى خطـأٍ شـائع بيـن المسـلمين ، عندمـا تخاطــب أحدهـم وتأمـره بعمـل مـن أعمـال الجـوارح المأمـور بهـا ، يقــول : ( إنمـا الأعمــال بالنيـات ) المهـم مـا وقـر فـي القلـب ! ! .
وهـذا فهـم خاطـئ للحديـث ، فالرسـول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لـم يقـل : ( إنمـا النيـات بالنيـة ) ، ولكـن قـال : ( إنمـا الأعمـال بالنيـات ) .
إذًا لابـد مـن العمـل الصالـح ثـم النيـة التـي تجعـل العمـل خالصًـا لوجـه الله .
مثــال ذلــك :
نهـى الرسـول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عـن الصـلاة فـي أوقـات معينـة وتسـمى أوقـات الكراهـة ، ونهـى صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم عـن هـذه الأوقــات لعـدم التشـبه بغيــر المسـلمين فـي عقيدتهـم ، رغـم عـدم الشـك فـي نيتـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم ونيـة أصحابـه ، فـلا يصلـي أحـد فـي هـذه الأوقـات ويقـول ليـس فـي نيتـي عقيـدة هـؤلاء ، فنيتـي صالحـة ، لا 0 النيـة لا تخرجـه عـن النهـي السـابق . فلابـد أن يكـون العمـل صالحًـا ـ أي علـى الكتـاب والسـنة ـ ، والنيـة صالحـة وخالصـة لوجـه الله .
نسـأل الله أن يصلـح أعمالنـا .
ـ محـل النيـة والقصـد :
اتفـق العلمـاء علـى أن القلـب محـل النيـة وموضعهـا .
ـ وقـت النيـة :
النيـة المُقَارِنـة ركـن فـي العبـادة ، فالأصـل فيهـا أن تكـون مُقارنـة للفعـلِ المَنْـوِيّ ، إلا أن الشـارع جـاء فـي بعـض الأعمـال وصحـح سـبق النيـة للفعـل ، مثـال ذلـك : أن الشـريعة جـاءت بـأن مـن نـوى الصيـام فـي الليـل صـح صيامـه ولـو لـم تكـن نيتـه مقارنـة لأول الصيـام (1) .
* فعـن حفصـة ؛ قالـت : قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : " لا صيـام لمـن لـم يؤرِّضْـهُ (2)
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) القواعد الفقهية ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي / ص : 23 .
( 2 ) " لمن لم يورِّضْه " : من أَرَّضَهُ ، إذا قدره وحزمه ؛ أي : لمن ينوه بالليل .
حاشية سنن ابن ماجه / ص : 297 .
مـن الليـل " .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 7 ) ـ كتاب : الصيام / ( 26 ) ـ باب :
ما جاء في فرض الصوم من الليل ، والخيار في الصوم / حديث رقم : 1700 / ص : 297 / صحيح .
* وعـن عائشـة ؛ قالـت : دخــل عَلـيَّ رســولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقـال : " هـل عندكـم شـيء " ؟ . فنقـول : لا ، فيقـول : " إنـي صائـم " ... .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 71 ) ـ كتاب : الصيام / ( 26 ) ـ باب :
ما جاء في ... / حديث رقم : 1701 / ص : 297 / حسن .
فالأصـل أن النيـة تصحـب العمـل مـن أول وقتـه حكمًـا لا حقيقـة ، أمـا الحقيقـة فظاهـرًا . وأمـا الحكـم فمثالـه : كـأن ينـوي المكلَّـف صـلاة العصـر ، وهـو يتوضـأ وضـوء صـلاة ولـم يُحْـدِث بعـد هـذا الوضــوء مـا ينافـي جنـس الصـلاة ، ثـم شـرع فـي صـلاة العصـر دون حضـور الذهـن لنيـة ، فإنـه نـاوٍ حكمًـا .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 39 .
شـــروط النيــة :
--------------
ننتقــل بعـد ذلـك للحديـث عـن شـروط النيـة ، متـى تكـون النيـة صحيحـة معتبـرة ، ومتـى لا تكـون ؟ هنـاك عـدد مـن الشـروط منهـا :
* الشـــرط الأول : العلـم بالمنـوي ، فأنـت إذا أردت أن تنـوي شـيئًا فلابـد أن تكـون عالمًـا بـه .
* والشــرط الثانـي : الجـزم بالمنـوي ؛ لأنـه لا يمكـن أن تنـوي شـيئًا وتقصـده إلا إذا كنـت جازمًـا ، وبعـض العلمـاء يجعـل الجـزم ركنًـا مـن أركـان النيـة ، ولا يجعلـه شـرطًا لهـا .
* والشــرط الثالـث : التمييـز ، فالصبـي غيـر المميِّـز لا يتمحـض لـه قصـد صحيـح ، وحينئـذ لا يصـح اعتبـار النيـة منـه ، قالـوا : ليـس لـه نيـة .
* الشــرط الرابـع : العقـل ؛ لأن غيـر العاقـل لا يتمحـض لـه قصـد صحيـح ؛ ولذلـك فـإن النائـم والمجنـون والسـكران لا تعتبـر نياتهـم ، إن كانـت لهـم نيـات ، وكـون السـكران حكـم بوقـوع الطـلاق بفعلـه ليـس هـذا مـن بـاب اعتبـار نيتـه ، وإنمـا هـو مـن بـاب ربـط الأحكـام بأسـبابها بـدون نظـر للنيـة .
* هنـاك شـرط خامـس يذكـره بعـض الفقهـاء : وهـو الإسـلام ، قالـوا : لأن الكافـر لا تصـح عبادتـه ،
وهـذا الشـرط لا يصـح ، لا يصـح أن نجعـل الإسـلام شـرطًا فـي النيـة ؛ وذلـك لأن الكافـر تعتبـر نيتـه فـي عـدد مـن الأمـور مثـل طلاقـه ، ومثـل بيعـه ، فـدل ذلـك علـى أن النيـة معتبـرة مـن الكافـر ، وأن النيـة تصـح ، وإن كـان صحـة العمـل فيـه تفصيـل .
فـإن قـال قائـل : العبـادات لا تصـح مـن الكافـر فحينئـذ كيـف تصـح نيتـه ؟
قلنـا : إن النيـة لا تتمحـض أن تكـون عبـادة ، بـل قـد تقـع علـى جهـة غيـر العبادة ، وعـدم صحـة عبـادات الكافـر ليـس معناهـا أنه لا تصـح نيتـه 0 مثـل المحـدِث : هـل تصـح الصـلاة من المحـدث ؟
لا تصـح الصـلاة مـن المحـدِث ، مـع أن نيتـه معتبـرة ، فعـدم صحـة الصـلاة وعـدم صحـة العبـادة لا يـدل علـى عـدم اعتبـار النيـة ، هـذا شـيء مـن مباحـث النيـة .
القواعد الفقهية ... / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
* الشـرط السـادس : ألا يأتـي بمنـافٍ للنيـة ، والمنافـي للنيـة أمـران :
أ ـ القطـع : يعنـي أن ينـوي قطـع العبـادة ، فعلـى هـذا مـن قـام يصلـي ثـم نـوى قطـع الصـلاة انقطعـت صلاتـه ، لكـن مـن تـردد فـي النيـة هـل يقطـع أو لا يقطـع ؟ الصحيـح أنهـا لا تنقطـع ، لأن أصـل النيـة موجـود .
ب ـ الـردة عـن الإسـلام ، علـى رأي مـن اشـترط الإسـلام لصحـة النيـة .
القواعد الفقهية ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
صــور التشــريك فـي النيــة :
-----------------------
* الصـورة الأولـى : أن يدخـل مـع العبـادة مـا ليـس بعبـادة أصـلاً . وهـذه الصـورة نوعيـن :
النـوع الأول : أن يدخــل مـع العبـادة مـا لا يصـح إدخالـه ، كالذبـح لله وللولـي فـلان ،
فهـذا يُبطـل العبـادة .
النـوع الثانـي : أن يدخـل مـع العبـادة مـا يصـح إدخالـه ، كمـا لـو اغتسـل بنيـة الجمعـة
والتَّبَـرّد .
* الصـورة الثانيـة : أن ينـوي مـع العبـادة عبـادة أخـرى ، وهـذا لـه أنـواع :
النـوع الأول : أن يدخـل الفريضـة علـى فريضـة ، هـذا لا يجـوز إلا فـي حالـة واحـدة فقـط ،
فـي الحـج فـي القِـران ، أي يدخـل الحــج علـى العمــرة ، فيقــول ( اللهـم لبيـك عمـرة
وحجًـا ) ، فهنـا أدخـل الحـج علـى العمـرة وقرنهمـا بنيـة واحـدة .
النـوع الثانـي : أن ينـوي مـع الفريضـة سـنة ، هـذا يجـوز فـي بعـض الصـور دون بعـض .
وسـيأتي تفصيـل ذلـك فـي قاعـدة ( 42 ) :
وإِنْ تَسَــاوى العَمَــلانِ اجْتَمَعَـــا وَفُعــــلَ أَحَدُهمَــــا فَاسْـــتَمِعَا
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 39 .
==============
12 ـ الدِّيـنُ مَبْنـيُّ علـى المَصَالـِـحِ فـي جَلْبِهَــا والــدَّرْءِ للقَبَائِــحِ
( الدِّيـنُ ) : فـي اللغـة : الطاعـة والجـزاء .
فمـن الأول ـ أي : " الطاعـة " ـ : قـول الشـاعر :
أيـامٍ لنـا غـرٍّ طـوالٍ عصينـا الملـكَ فيهـا أن نَدِينـا
[ فالديـن بهـذا المعنـى مأخـوذ مـن الفعـل : " دان " بمعنـى : أطـاع ، فمـن دان لغيـره ، وأطاعـه فإنـه قـد سـلم الديـن لـه ، ولمـا كـان أهــل الإيمـان يطيعــون الله ـ عــز وجــل ـ سـميت شــريعة الله " الديـن " (1) ] .
ومـن الثانـي ـ أي : " الجـزاء " : قولهـم :
( كمـا تَدِيـن تُـدانُ ) ، ومنـه : ( يـومُ الديـنِ ) أي : يـوم الجـزاء .
وأُطلـق علـى الشـريعةِ لفـظُ الديـن لقيامهـا علـى معنـى الطاعـة والجـزاء .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
( المَصَالـِـحِ ) : جمـع مصلحـة ، وهـي المنفعـة وزنًـا ومعنـًى ، واحدهـا " مصلحـة " .
إلا أن المقصـود مـن المصالـح عنـد الفقهـاء هـو حفـظ مقصـود الشـارع بالحفـاظ علـى الكليـات الخمـس ، وهـي : " الديـن ، والنفـس ، والعقـل ، والنسـل ، والمـال " ، فقـد جـاء الإسـلام للحفـاظ علـى هـذه الكليـات الخمـس .
( فـي جَلْبِهَــا ) : قـال فـي القامـوس : " جلـب الشـيء : المجـيء بـه مـن مكـان إلـى آخـر " .
--------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) القواعد الفقهية ... / شرح : سعد بن ناصر الشثري / ص : 24 .
( الــدَّرْءِ ) : قـال فـي القامـوس : " الـدرء هـو الدفـع .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 45 .
( القَبَائِــحِ ) : هـي المفاسـد ، جمـع مفسـدة ، وهـي المضـرَّةُ ، والقبيـح ضـد الحسـن .
* وهـذه القاعـدة هـي القاعـدة العامـة ـ الكليـة ـ التـي ترجـع إليهـا أصـول الشـريعة وفروعهـا وسـائر القواعـد الفقهيـة .
يعنـي : أن بعـض العلمـاء ، وهـو العـز بـن عبـد السـلام ـ أرجَـع الفقـه كلـه إلـى قاعـدة واحـدة
وهـي : ( جلـب المصالـح ودرء المفاسـد ) .
وقـال ابـنُ السـبكي : بـل يرجــع الفقــه كلـه إلـى الجــزء الأول مـن القاعــدة، وهـي : ( جلــب
المصالـح ) ، لأن درء المفاسـد نـوع مـن جلـب المصالـح .
القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
فهـذا الأصـل العظيـم ، والقاعـدة العامـة يدخـل فيهـا الديـن كلـه ، فكلـه مبنـي علـى تحصيـل المصالـح فـي الديـن والدنيـا والآخـرة ، وعلـى دفـع المضـار فـي الديـن والدنيـا والآخـرة 0 مـا أمـر الله بشـيءٍ إلا وفيـه مـن المصالـح مـا لا يحيـط بـه الوصـف ، ومـا نهـى عـن شـيءٍ إلا وفيـه مـن المفاسـد مـا لا يحيـط بـه الوصـف .
قـال تعالـى : { ... وَيُحِـلُّ لَهُـمُ الطَّيِّبَـاتِ وَيُحَـرِّمُ عَلَيْهِـمُ الْخَبَآئِـثَ ... } .
سورة الأعراف / آية : 157 .
ومـن أعظـم ما أمـر الله بـه التوحيـد ، الـذي هـو : إفـراد الله بالعبـادة ، وهو مشـتمل على صـلاح
القلـوب ، وسـعتها ، ونورهـا ، وانشـراحها ، وزوال أدرانهـا ، وفيه مصالـح البـدن والدنيـا والآخـرة .
وأعظـم ما نهـى الله عنـه : الشـرك فـي عبادتـه ، الـذي هـو فسـاد وحسـرة فـي القلـوب والأبـدان ، والدنيـا والآخـرة .
فكـل خيـر فـي الدنيـا والآخـرة فهـو مـن ثمـرات التوحيـد .
وكـل شـر فـي الدنيـا والآخـرة فهـو مـن ثمـرات الشـرك .
وممـا أمـر الله بـه : الصـلاة ، والزكـاة ، والصيـام ، والحـج : الـذي مـن فوائـد هـذا انشـراح الصـدر ونـوره ، وزوال همومـه وغمومـه ، ونشـاط البـدن وخفتـه ، ونـور الوجـه ، وسـعة الـرزق ، والمحبـة في قلـوب المؤمنيـن ، وفـي الزكـاة والصّدقـة ، ووجـوه الإحسـان : زكـاة النفـس وتطهيرهـا ، وزوال الـدرن عنهـا ، ودفـع حاجـة أخيـه المسـلم ، وزيـادة بركـة مالـه ونمـاؤه ، مـع مـا فـي هـذه الأعمـال مـن عظيـم ثـواب الله الـذي لا يمكـن وصفـه ، ومن حصـول رضـاه الـذي هـو أكبـر مـن كـل شـيءٍ ، وزوال سـخطه .
وكذلـك شـرع لعبـاده الاجتمـاع للعبـادة فـي مواضـع ، كالصلـوات الخمـس ، والجمعـة ، والأعيـاد ، ومشـاعر الحـج ، والاجتمـاع لذكـر الله ، والعلـم النافـع ، لمـا فـي الاجتمـاع مـن الاختـلاط الـذي يوجـب التـوادد والتواصـل ، وزوال التقاطـع والأحقـاد بينهـم ومراغمـة الشـيطان الـذي يكـره اجتماعهـم علـى الخيـر ، وحصـول التنافـس فـي الخيـرات ، واقتـداء بعضهـم ببعـض ، وتعليـم بعضهـم بعضـًا ، وتعلـم بعضهـم مـن بعـض ، وكذلـك حصـول الأجـر الكثيـر الـذي لا يحصـل بالانفـراد ، إلـى غيـر ذلـك مـن الحِكَـم .
وأبـاح سـبحانه البيـع والعقـود المباحـة ، لمـا فيهـا مـن العـدل ، ولحاجـة النـاس إليهـا 0 وحـرم الربـا وسـائر العقـود الفاسـدة ، لمـا فيهـا مـن الظلـم والفسـاد ، وأبـاح الطيبـات مـن المآكـل والمشـارب ، والملابـس ، والمناكـح ، لمـا فيهـا مـن مصالـح الخلـق ، ولحاجـة النـاس إليهـا ، ولعـدم المفسـدة فيهـا 0 وحـرم الخبائـث مـن : المآكـل ، والمشـارب ، والملابـس ، والمناكـح ، لما فيهـا مـن الخبـث والمضـرة ، عاجـلاً وآجـلاً ، فتحريمهـا حمايـة لعبـاده ، وصيانـة لهـم ، لا بخـلاً عليهـم ، بـل رحمـة منـه بهـم ، فكمـا أن عطـاءَه رحمــة ، فمنعـه رحمـة ، مثـال ذلـك : أن إنـزال المطـر بقـدر ما يحتـاج إليـه العبـاد : رحمـة منـه تعالـى ، فـإذا زاد بحيـث تضـر زيادتـه كـان منعـه رحمـة 0 لـذا شـرع لنـا عنـد زيـادة المطـر إلـى درجـة نخشـى منهـا الضـر ، الدعـاء بهـذا : " ... اللهـم حوالينـا ولا علينـا ... " 0
صحيح البخاري . متون / ( 15 ) ـ كتاب : الاستقساء / ( 6 ) ـ باب : الاستقساء
في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة / حديث رقم : 1014 / ص : 117 .
وبالجملــة ، فـإن أوامــر الـرب قـوت القلــوب وغذاؤهـا ، ونواهيـه داء القلــوب وَكُلُومهَـا ، وكذلـك المواريـث ، والأوقـاف ، والوصايـا ، ومـا فـي معناهـا : اشـتملت كلهـا علـى غايـة المصلحـة والمحاسـن ، فالديـن مُقـام علـى جلـب المصالـح ودرء المفاسـد .
رسالة القواعد الفقهية / للسعدي / ص : 14 / بتصرف .
دليـل هـذه القاعـدة : العمـوم والاسـتقراء .
أمـا العمـوم : فمنـه قولـه تعالـى (1) :
-------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) وذلك بدلالة اللزوم .
{ إِنَّ اللهَ يَأْمُـرُ بِالْعَـدْلِ وَالإِحْسَـانِ وَإِيتَـاء ذِي الْقُرْبَـى وَيَنْهَـى عَـنِ الْفَحْشَـاء وَالْمُنكَـرِ وَالْبَغْـيِ ... } . سورة النحل / آية : 90 .
وقولـه سـبحانه (1) : { وَمَـا أَرْسَـلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَـةً لِّلْعَالَمِيـنَ } . سورة الأنبياء / آية : 107 .
فمقتضـى كـون هـذه الشـريعة رحمـة أن تكـون جالبـة للمصلحـة دافعـة للمفسـدة (1) .
وفـي تعاليـل الأحكـام نجـد أن الشـريعة عللـت كثيـرًا مـن أحكامهـا بمصالـح الخلـق كمـا قـال ـ جـل
وعـلا ـ : { وَلَكُـمْ فِـي الْقِصَـاصِ حَيَـاةٌ يَـاْ أُولِـيْ الأَلْبَـابِ ... } . سورة البقرة / آية : 179 .
فقولــه : حيـاة ، هـذا تعليـل لهـاذا الحكــم وهـو القصـاص لمصلحـة الخلــق ـ [ حتـى لا تكـون
فوضـى ويعـم الفسـاد ، فـإذا عُلـم أن هنـاك قصـاص ارتـدع المعتـدي (2) ] ـ .
وأمـا الاسـتقراء : ـ وهـو تتبُّـعُ الجزئيـات للوصـول إلـى حكـم كلِّـيٍّ ـ : وتتبـع الأحكـام والنظـر فـي
عللهـا وحِكَمِهَـا ، دليـل قاطـع علـى كـون هـذه الشـريعة مصلحـة للخلـق .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
منظومة القواعد ... / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
ـ بعـد أن ذكـر الناظـم القاعـدة الكليـة فـي المصلحـة ، بـل هـي مـن القواعـد الخمـس الكبـرى ، بعدهـا انتقـل إلـى تفريـع مبنـي علـى تلـك القاعـدة ، وهـو تزاحـم المصالـح وتزاحـم المفاسـد 0 وهـي القواعـد التاليـة لهـذا .
القواعد الفقهية ... / شرح : الشيخ خالد المصلح / بتصرف .
==============
13 ـ فَـإِنْ تَزَاحَـمْ عَــدَدُ المَصَالِــحِ يُقــدَّمُ الأَعلـى مِـنَ المَصَالِــحِ
إذا دار الأمـر بيـن فعـل إحـدى المصلحتيـن وتفويـت الأخـرى ، بحيـث لا يمكـن الجمـع بينهمـا ، رُوعـي أكبـر المصلحتيـن وأعلاهمـا فَفُعِلَـتْ .
* فـإن كانـت إحـدى المصلحتيـن واجبـة والأخـرى سُـنَّة ، قـدم الواجـب علـى السـنة لأن مصلحتـه
-------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) وذلك بدلالة اللزوم .
( 2 ) [ ] ما بين المعكوفتين تصرف .
أعظـم . ودليـل ذلـك :
* عـن أبـي هريـرة قـال : قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" إن الله قـال : مـن عـادى لـي وليًّـا فقـد آذنتـه بالحـرب ومـا تقـرب إلـيَّ عبـدي بشـيء أحـبَّ إلـيَّ ممـا افترضـت عليـه ، ومـا يـزال عبــدي يتقــرب إلـيَّ بالنوافــل حتـى أحبَّــهُ ، فـإذا أحببتـه كنـتُ سَمْعَـهُ الـذي يسـمعُ بـه وبصـرَه الـذي يبصــرُ بـه ويَـدَهُ التـي يبطــش بهـا ، ورِجلَـه التـي يمشـي بهـا ، وإن سـألني لأعطينَّـه ، ولئـن اسـتعاذني لأُعيذنَّـه ، ومـا تـرددتُ عـن شـيء أنـا فاعلـه تـرددي عـن نفـس المؤمـن ، يكـرَه المـوتَ وأنـا أكـرَه مسـاءَتَهُ " .
صحيح البخاري . متون / ( 81 ) ـ كتاب : الرقاق / ( 38 ) ـ باب : التواضع / حديث رقم : 6503 / ص : 760 .
ـ فـإذا أُقيمـت صـلاة الفريضـة ، لـم يجـز ابتـداءُ التطـوع ، وكـذا إذا ضـاق الوقـت (1) .
* لحديـث أبـي هريـرة ، فعـن أبـي هريـرة ، عـن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال : " إذا أقيمـت الصـلاة فـلا صـلاة َ إلا المكتوبـة " .
صحيح مسلم . متون / ( 6 ) ـ كتاب : صلاة المسافرين وقصرها / ( 9 ) ـ باب : كراهة
الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن / حديث رقم : 63 ـ ( 710 ) / ص : 171 .
ـ وكذلـك إذا تعـارض صيـام النفـل للمـرأة مع طاعـة الـزوج ، قُدمـت طاعـة الـزوج ، لأنهـا واجبـة .
* فعـن همَّـام بـن مُنَبـه 0 قـال : هـذا مـا حدثنـا أبـو هريـرة عـن محمـدٍ رسـولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
فذكـر أحاديـث منهـا 0 وقــال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : " لا تَصُـمِ المــرأةُ وبعلُهـا شـاهد
إلا بإذنـه ... " .
صحيح مسلم . متون / ( 12 ) ـ كتاب : الزكاة / ( 26 ) ـ باب : ما أنفق العبد من
مال مولاه / حديث رقم : 84 ـ ( 1026 ) / ص : 243 .
* وإن كانـت المصلحتـان واجبتيـن ولـم يمكـن الإتيـان بهمـا ، قـدّم أوجبهمـا ، فيقـدم صـلاة الفـرض ،
علـى صـلاة النـذر ، وكالنفقـة اللازمـة للزوجـات ، والأقـارب ، يقـدم الأقـرب فالأقـرب 0 [ وكالزوجـة
-------------------------------------------------------------------
( 1 ) مثال ذلك : إذا بقي على طلوع الشمس ما يكفيك لصلاة ركعة ، فلا يجوز أن تصلي السنة القبلية لضيق الوقت ، فالمصلحة الأعلى هنا إدراك صلاة الفريضة ، في وقتها .
إذا تعـارض فـي حقهـا أمـر زوجهـا وأمـر أبويهـا ، فتعمـل بأمـر الـزوج (1) ، لأن طاعتـه آكـدُ وأوجـبُ ] .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
* وإن كانـت المصلحتـان مسـنونتين ، قـدم أفضلهمـا ، فتقـدم الراتبـة علـى السـنة ، والسـنة علـى النفـل المطلـق ، ويقـدم ما فيـه نفـع متعـد ، كالتعليـم وعيـادة المريـض ، واتبـاع الجنائـز ، ونحوهـا ؛ علـى مـا نفعـه قاصـر ، كصـلاة النافلـة ، والذكـر ، ونحوهمـا .
وتقـدم الصدقـة ، والبـرّ للقريـب علـى غيـره .
* [ وإن تعارضـت مصلحتـان عامـة وخاصـةٌ ، فتقـدَّم المصلحـة العامـة ، لأنهـا آكـدُ ] .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
ـ ولكـن هاهنـا أمـر ينبغـي التفطـن لـه ، وهـو أنـه قـد يَعْـرِض للعمـل المفضـول مـن العـوارض مـا يكـون بـه أفضـل مـن الفاضـل ، بسـبب اقتـران مـا يوجـب التفضيـل .
ومـن الأسـباب الموجبـة للتفضيـل :
* أن يكـون العمـل المفضـول مأمـورًا به بخصـوص هـذا الموطـن ، كالأذكـار فـي الصـلاة وانتقالاتهـا ، والأذكـار بعدهـا ، والأذكـار الموظفـة بأوقاتهـا ، تكـون أفضـل من قـراءة القـرآن فـي هـذه المواطـن .
* ومـن الأسـباب الموجبـة للتفضيـل : أن يكـون العمـل المفضـول مشـتملاً علـى مصلحـة لا تكـون فـي الفاضــل ، كحصـول تأليـف قلــوب بـه أو نفـع متعـدٍّ لا يحصـل بالفاضـل ، أو يكـون فـي العمــل المفضـول دفـع مفسـدة يظـن حصولهـا فـي الفاضـل .
* فعـن عائشـة ـ رضي الله عنها ـ أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال لهـا :
" يـا عائشـة لـولا أن قومَـكِ حديـثُ عهـدٍ بجاهليـة ، لأمـرتُ بالبيـت فهُـدِم فأدخلـتُ فيـه مـا أُخـرِجَ منـه ، وألزقتـه بالأرضِ ، وجعلـتُ لـه بابيـن ، بابـًا شـرقيًا وَبابـًا غربيـًّا فبلغـتُ به أسـاسَ إبراهيـم " .
صحيح البخاري . متون / 25 ـ كتاب : الحج / 42 ـ باب : فضل مكة وبنيانها /
حديث رقم : 1586 / ص : 181 . دار ابن الهيثم .
فهنـا تـرك النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الأفضـل ـ وهـو هـدم الكعبــة ، وبناؤهـا مـرة أخـرى
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) هذه الطاعة للزوج مقيدة بألاّ تؤدي طاعته إلى عقوق الوالدين ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وكل هذا بمعايير الشرع المنضبطة . منظومة القواعد ... / شرح : حسين عبد العزيز آل الشيخ .
على أسـاس إبراهيـم ـ عليه السلام ـ ، لأن الأفضـل معـه مفسـدة 0 فالنـاس ألِفُـوا صـورة الكعبـة هكـذا ،
ولـو تغيـرت قـد يخـرج بعضهـم مـن الإسـلام ، فهـم مازالـوا ضعـاف الإيمـان لأنهـم حديثـو عهـد بالجاهليـة ؛ أي خرجـوا مـن الجاهليـة منـذ وقـت قريـب ـ .
فتـرك النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مصلحـة بنـاء الكعبـة علـى قواعـد إبراهيـم دفعًـا لمفسـدة راجحـة .
ـ وهـذا أمـر مركـوزٌ عنـد العقـلاء ، كمـا قيـل :
إن اللبيـب إذا بـدا مـن جسـمه مرضـان مختلفـان داوى الأخطـرا
ـ وهـذه القاعـدة يـدور عليهـا كتـاب الأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر لابـن تيميـة .
فقـد تحـاول إزالـة منكـر وتُصـر علـى ذلـك ، فتتسـبب فـي عشـرات مـن المنكـرات بسـبب إزالتـك لهـذا النكـر ، وقـد تأمـر بالمعـروف فتتسـبب فـي إزالـة عشـرات مـن المعـروف .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
* ومـن الأسـباب الموجبـة للتفضيـل أن يكـون العمـل المفضـول أزيـد مصلحـة للقلـب مـن الفاضـل ، كمـا قـال الإمـام أحمـد ـ رحمه الله ـ لمـَّا سـئل عـن بعـض الأعمـال : " انظـر إلـى مـا هـو أصلـح لقلبـك فافعلـه " فهـذه الأسـباب تصيِّـر العمـل المفضـول أفضـل مـن الفاضـل بسـبب اقترانهـا بـه .
رسالة القواعد الفقهية / للسعدي / ص : 17 / بتصرف .
================
14 ـ وَضِــدُّهُ تَزَاحُـــمُ المَفَاسِـــدِ يُرتَكَــبُ الأَدْنَــى مِــنَ المَفَاسِــدِ
وضـد القاعـدة السـابقة ؛ تَزَاحُــمُ المَفَاسِـــدِ :
المقصـود هنـا عنـد وجـود مفسـدتين محققتيـن ، لابـد مـن وقـوع واحـدة منهمـا ، ولا مفـر مـن تجنـب إحداهمـا ، فـي هـذه الحالـة تتَّقَـى المفسـدة العظمـى بالمفسـدة الدنيـا ، لكـن إذا كـان يمكـن تجنـب المفسـدتين فـلا تطبـق هـذه القاعـدة فـي هـذه الحالـة .
المفاسـد : إمـا محرمـات ، أو مكروهـات ، كما أن المصالـح : إمـا واجبـات أو مسـتحبات ، فـإذا تزاحمـت المفاسـد ، بـأن اضطــرّ الإنسـان إلـى فعـل إحداهـا ، فالواجـب أن لا يرتكـب المفســدة الكبـرى ، بـل
يفعـل الصغـرى ، ارتكابـًا لأهـون الشـرين ، لدفـع أعلاهمـا .
فـإن كانـت إحـدى المفسـدتين حرامـًا والأخـرى مكروهـة ، قـدم المكـروه علـى الحـرام ، فيقـدم الأكـل
مـن المشـتبه علـى الحـرام الخالـص ، وكذلـك يقـدم سـائر المكروهـات علـى المحرمـات .
وإن كانـت المفسـدتان حراميـن : قـدم أخفهمـا تحريمـًا ، وكـذا إذا كانتـا مكروهتيـن ، قـدم أهونهمـا .
ـ مـن تطبيقـات هـذه القاعـدة :
* خـرق الخضـر للسـفينة :
قـال تعالـى على لسـان موسـى : { ... قَـالَ أَخَرَقْتَهَـا لِتُغْـرِقَ أَهْلَهَـا لَقَـدْ جِئْـتَ شـَيْئاً إِمْـراً } .
سورة الكهف / آية : 71 .
فبيَّـنَ الخِضْـر أن هـذه السـفينة لـو بقيـت صالحـة لأخذهـا الملـك الظالـم ، فكـان خرقهـا فسـاد وضـرر ، لكـن يُدْفَـع بـه مـا هـو أضـر وهـو أخـذ السـفينة بكاملهـا .
* وكـون الإنسـان بيـن اختياريـن : طلـب العلـم فـي موضـع يـري فيهـا المنكـر ويسـكت ، أو تـرك ذلـك والبقـاء علـى الجهـل والأميـة .
فالأول مُقـدم فـي الاختيـار ، فـإن طلـب العلـم مـن ضـرورة حفـظ الديـن ، والسـكوت عـن إنكـار المنكـر فيـه رخصـة فـي أحـوال .
ومنهـا جـوازالكــذب للإصـلاح بيـن الزوجيـن .
ـ ذُكـر عـن شـيخ الإسـلام ابـن تيميـة ـ رحمه الله ـ أنـه مـر بقـوم مـن التتـار كانـوا يشـربـون الخمـر ولـم ينههـم عـن شـرب الخمـر ، وكـان معـه صاحـب لـه فقـال لـه : لمـاذا لـم تنههـم ؟ ! قـال : لأنهـم لـو تركـوا شـرب الخمـر لذهبـوا يهتكـون أعـراض المسـلمين ويغصبـون أموالهـم ، وهـذا ظلـم مُتعـدّ ، وأمـا شُـرب الخمـر فإنـه ظلـم لازم لأنفسـهم فقـط .
* ومن ذلـك أيضًـا : تَـرْك سـب آلهة المشـركين مفسـدة ، لأن الواجـب سـب آلهتهـم والتحذيـر منهـا .
فـإذا لـزم سـبِّهـا سـب الله عـز وجـل ، وجـب الكـف عـن سَـبها .
لقولـه تعالـى : { وَلاَ تَسُـبُّواْ الَّذِيـنَ يَدْعُـونَ مِـن دُونِ اللهِ فَيَسُـبُّواْ اللهَ عَـدْواً بِغَيْـرِ عِلْـمٍ ... } .
سورة الأنعام / آية : 108 .
تيسير علم أصول الفقه / ص : 339 ، 340 .
القواعد الفقهية / العثيمين / ص : 38 .
* ومـن تطبيقـات هـذه القاعـدة الحديـث الآتـي :
* عـن أبـي سـعيد الخـدري فـي حديثـه هـذا ، أن أُناسـًا مـن عبـد القيـسِ قَدِمـوا علـى رسـول الله ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقالـوا : يـا نبـي الله ! إنـَّا حَـيّ مـن ربيعـةَ . وبيننـا وبينـك كفــار مُضَـرَ . ولا نقـدرُ (1) عليـك إلا فـي أَشـهرِ الْحُـرُمِ . فَمُرْنـا بأمـرٍ نأمـرُ بـه مَـنْ وراءنـا ، وندخـلُ بـه الجنـةَ ، إذا نحـن أخذنـا بـه .
فقـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : " آمرُكُـم بأربـعٍ (2) . وأنهاكـم عـن أربـع . اعبـدوا الله ولا تُشـركوا بـه شـيئًا . وأقيمـوا الصـلاة . وآتـوا الزكــاة . وصومـوا رمضـان . وأَعطـوا الخُمُـسَ مـن الغنائـم . وأنهاكـم عـن أربـعٍ . عـن الدُّبـاء (3) . والْحَنْتَـم (4) . والمُزَفَّـتِ (5) . والنَّقِيـرِ (6) " . قالـوا : يـا نبـي الله ! مـا عِلْمُـكَ بالنقيـر ؟ . قـال : " بلـى . جـذعٌ تنقرونـه . فتقذفـون فيـه مـن القُطَيْعَـاءِ " .
( قـال سـعيد : أو قـال مـن التمـر ) ـ " ثـم تصُبُّـون فيـه من المـاء . حتـى إذا سـكن غليانـه شـربتموه . حتـى إنَّ أحدكـم ( أو إنَّ أحدهـم ) ليضـربُ ابـنَ عمـه بالسـيف " .
قـال : وفـي القـوم رجـل أصابتـه جِرَاحـةٌ " كذلـك . قـال : وكنـتُ أَخْبَأُهـا حيـاءً مـن رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ . فقلـتُ : ففيـم نشـربُ يـا رسـول الله .
قـال : " فـي أسـقية الأَدَمِ ، التـي يُـلاثُ علـى أفوَاهِهَـا " . قالـوا : يـا رسـول الله ! إن أرضَنـا كثيـرةُ الجِـرْذانِ . ولا تبقَـى بهـا أسـقيةُ الأَدمِ . فقـال نبــي الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : وإن أكلتهـا الجِـرْذانُ . وإن أكلتهـا الجِـرذان . وإن أكلتهـا الجـرذان " . وقـال نبـي الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لأشَـجِّ عبـدِ القيـسِ : " إن فيـك لخصلتيـن يحبهمـا اللهُ الحلـمُ والأنـاةُ " .
صحيح مسلم . متون / ( 1 ) ـ كتاب : الإيمان / ( 6 ) ـ باب : الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... / حديث رقم : 26 ـ ( 18 ) / ص : 19 .
( 1 ) لا نقـدر عليـك : أي لا نقـدر علـى الوصـول إليـك .
( 2 ) آمركـم بأربـع : قـال صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم آمركـم بأربـع ثـم ذكـر خمـس 0 اختلـف العلمـاء فـي الجـواب عـن هـذا على أقـوال ، أظهرهـا ما قالـه الإمـام ابـن بَطَّـال ـ رحمه الله ـ ،
قـال : أمرهـم بالأربـع التـي وعدهـم بهـا ، ثـم زادهـم خامسـة ، يعنـي أداء الخمـس لأنهـم كانـوا مجاوريـن لكفـار مُضَـر ، فكانـوا أهـل جهـاد وغنائـم . ا . هـ .
فتح الباري بشرح صحيح البخاري .
( 3 ) الدُّبـاء : وهـو القـرع اليابـس أي الوعـاء منـه .
[ وفيـه : تُقطـع القرعـة نصفيـن وينـزع منهـا البـذور ثـم تجفـف وتسـتعمل كوعـاء .
ويطلـق اسـم الدُّّبـاء علـى القـرع ، وعلـى الكوسـة ] .
شرح صحيح مسلم .
( 4 ) الحَنْتَـم : جِـرار ـ مفردهـا ـ الْجَـرَّة .
( 5 ) المزفـت : مـا طُلـي بالزفـت .
( 6 ) النقيـر : أصـل النخلـة يُنقـر فيتخـذ منـه وعـاء .
ومعنـى النهـي عـن هـذه الأوعيـة الأربـع : أنـه نهـى عـن الانتبـاذ فيهـا ـ أي : النقـع ـ ، وهـو أن يجعـل فـي المـاء حبـات مـن تمـر أو زبيـب أو نحوهمـا ليحلـو ويُشـرب .
وإنمـا خُصـت هـذه ـ الأوعيـة ـ بالنهـي لأنـه يسـرع إليـه الإسـكار فيهـا ـ أي تتخمـر سـريعًا ـ . فنهـى عنـه ، ولـم ينـه عـن الانتبـاذ فـي أسـقية الأَدم ، بـل أذن فيهـا لأنهـا لرقتهـا لا يخفـى فيهـا المُسْـكِر ، بـل إذا صـار مسـكرًا شـقها غالبـًا بخـلاف هـذه الأوعيـة المذكـورة وغيرهـا مـن الأوعيـة الكثيفـة ، فإنـه قـد يصيـر فيهـا مسـكرًا ولا يعلـم . ثـم إن هـذا النهـي كـان فـي أول الأمـر ثـم نُسـخ بحديـث بُرَيْـدة ـ رضي الله عنه ـ أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال :
" كنـت نهيتكـم عـن النبيـذ إلا فـي سـقاء . فاشـربوا فـي الأسـقية كلهـا ، ولا تشـربوا مُسْـكرًا " .0
صحيح مسلم / ( 11 ) ـ كتاب : الجنائز / ( 36 ) ـ باب : استئذان النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ربه في ... / حديث رقم : 977 / ص : 231 .
صحيح مسلم شرح ... النووي / المنهاج / ج : 1 / ( 1 ) ـ كتاب : الإيمان /
( 8 ) ـ باب : الأمر بقتال ... / ص : 136 ، 137 / بتصرف .
وعون المعبود / المجلد الخامس / كتاب العلم / 8 ـ باب / ص : 115 .
· تطبيــق القاعــدة الفقهيــة علـى هـذا الحديــث :
يوجـد بالحديـث مفسـدتان : الأولـى : قضيـة انتشـار الخمـور ، وأن هـذه الأوانـي المنهـي عنهـا يسـرع إليهـا تخمـر النبيـذ ( أي النقيـع ، سـواء كـان نقيـع تمـر أو غيـره ) ، وخوفـًا مـن أن يصيـر مسـكرًا ولا يعلـم بـه لكثافتهـا فيتلـف ماليتـه ، وربمـا شـربه المسـلم ظانـًا أنـه لـم يُصَـرْ مُسْـكِرًا فيصيـر شـاربًا للْمُسْـكِر ، وكـان العهـد قريبـًا بإباحـة المسـكر .
الثانيـة : لتجنـب ذلـك ، أمـر صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم باسـتخدام أوانـي الجلـد ، لتجنـب هـذه
المفسـدة ، ولكـن مـع ذلـك توجـد مفسـدة أخـرى وهـي : أن أوانـي الجلـد هـذه ـ أسـقية الأدم ـ
سـريعة التلـف نظـرًا لانتشـار الفئـران فـي هـذه المناطـق وقرضهـا لهـذه الأوعيـة .
نعـم هـذه مضـرة ، لكـن فـي المقابـل سـنتقي مضـرة أكبـر منهـا وهـي مضـرة شـرب الخمـر .
لـذا لمـا طــال الزمـان واشـتهر تحريـم المسـكرات ، وتقــرر ذلـك فـي نفوسـهم ، نُسـخ ذلـك وأبيـح لهـم الانتبـاذ فـي كـل وعـاء بشـرط أن لا يشـربوا مسـكرًا .
عون المعبود / المجلد الخامس / كتاب : العلم / 8 ـ باب / ص : 116 / بتصرف .
وشرح صحيح مسلم . بتصرف .
· ومـن هنـا يتبيـن أن تـلازم الأحكـام وتزاحمهـا يحتـاج إلـى أمريـن لكـي يُبَـتّ فـي ذلـك ، نـص عليهمـا شـيخ الإسـلام فـي " المجمـوع " :
الأول : معرفـة واقـع الواقعـة .
الثانـي : العلـم بمراتـب الحسـنات والسـيئات ، ومقاصـد الشـريعة .
مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية / ص : 48 .
o لطيفـــة :
ــــــــ
لمـاذا قـال صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم لأشـج عبـد القيـس : إن فيـك لخصلتيـن يحبهمـا الله الحلـم والأنـاة ؟
الجـــواب يظهـر فـي الحديـث اللآتـي :
قـال أبـو داود فـي سـننه : حدثنـا محمـد بـن عيسـى بـن الطبـاع ، قـال : حدثنـا مَطَـر بـن عبـد الرحمـن الأعنَـاق ، قـال : حدثتنـي أم أبـان بنـتُ الـوزاع بـن زارع ، عـن جدهـا زارع ـ وكـان فـي وفـد عبـد القيـس ـ قـال : [ لمـا قدمنـا المدينـة فجعلنـا نتبـادر مـن رواحلنـا ، فَنُقَبِّـلُ يـدَ رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ] . قـال : وانتظـر المنـذرُ الأشـجُّ حتـى أتـى عَيْبتـه فلبـس ثوبيـه ، ثـم أتـى النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقـال لـه : " إن فيـك خَلتيـن يحبهمـا الله : الحلـم والأنـاة " قـال : يـا رسـول الله أنـا أتخلـق بهمـا أم الله جبلنـي عليهمـا ؟ . قـال : " بـل اللهُ جبلـك عليهمـا " . قـال : الحمـد لله الـذي جبلنـي علـى خَلَّتيـن يحبهمـا الله ورسـوله .
سنن أبي داود [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 35 ) ـ أول كتاب : الأدب / ( 164 ) ـ باب :
قُبلة ... / حديث رقم : 5225 / ص : 944 / ما بين المعكوفتين : حسن / باقي الحديث : صحيح .
* ومـن تطبيقــات هــذه القاعــدة أيضــًا :
" إشــعار الهــدي وتقليــده " :
فالشـرع يكـون حيـث المصلحـة المحضـة ، أو المصلحـة الراجحـة . فـإن إشـعار (1) الإبــل والبقــر
المهـداة ، فيـه تعذيـب لهـا .
ولكـن مصلحـة إشـعارها ، لتعظيمهـا ، وإظهـار طاعـة الله فـي إهدائهـا ، راجـح علـى هـذه المفسـدة
اليسـيرة .
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام / ج : 2 / باب : الهدي / ص : 176 .
سُـــنة منسـية :
----------
مـن القربـات العظيمـة الأجـر ، الإهـداء للبيـت الحـرام .
فالهـدي ـ التطوعـي ـ : هـو مـا أُهـدي إلـى البيـت الحـرام مـن الإبـل ، والبقـر ، والغنـم وغيرهـا .
ويُـراد بتقديمـه إلـى البيـت ـ الكعبـة ـ ، التوسـعة والإحسـان إلـى جيـران البيـت الحـرام وزائريـه ، مـن الفقـراء والمسـاكين .
وللمُهْـدِي أن يأكـل مـن هـدي التطـوع والتمتـع والقـران .
ولا يعطـي جازرهـا شـيئًا منهـا ، علـى وجـه المعاوضـة ـ أي الأجـرة ـ ، بـل يتصـدق عليـه ويهـدي
إليـه منهـا .
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام / ج : 2 / باب : الهدي / ص : 181 .
وهـو مـن أفضـل القُـرَب عنـد الله تعالـى . لأن الصدقـة ، والإنفـاق مـن أفضـل العبـادات ، وينضـم إليهـا عبـادة أخـرى وهـي سـفك الدمـاء لوجهـه الكريـم ، بعـد أن كانـت تُسـفك للأصنـام والطواغيـت . لاسـيما إذا كـان فـي البلـد الحـرام ، وعلـى المنقطعيـن لعبـادة الله تعالـى فيـه ، والمجاوريـن لبيتـه .
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام / ج : 2 / باب : الهدي / ص : 174 / بتصرف .
* عـن عائشـة ـ رضي الله عنها ـ قالـت : كنـت أفتـلُ القلائـد للنبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيقلـد الغنـم ويقيـم فـي أهلـه حـلالاً .
صحيح البخاري / ( 25 ) ـ كتاب : الحج / ( 110 ) ـ باب : تقليد الغنم / حديث رقم : 1702 / ص : 192 .
-------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) الإشعار معناه : الإعلام . والعبادات شعائر الله لأنها علامات طاعته .
والشعيرة : ـ هنا ـ ما يُهدَى إلى البيت من بهيمة الأنعام ، فتُعلَّم ، وذلك بإزالة شعر أحد جانبي البدنة أو البقرة ، وكشطه حتى يسيل منه الدم ، ليعلم الناس أنها مُهداة إلى البيت فلا يتعرضوا لها .
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام / ج : 2 / باب : الهدي / ص : 175 .
يؤخـذ مـن الحديـث جـواز إهـداء الغنـم إلـى البيـت الشـريف .
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام / ج : 2 / باب : الهدي / ص : 177 / بتصرف .
* وعـن عائشـة ـ رضي الله عنها ـ قالـت : فتلـت قلائِـدَ هـدي النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ثـم أشْـعَرَهَا وقلَّدهـا ـ أو قلدتهـا ـ ثـم بعـث بهـا إلـى البيـت وأقـام بالمدينـة . فما حَـرُمَ عليـه شـيءٌ كـان حِـلٌّ .
صحيح البخاري " متون " / ( 25 ) ـ كتاب : الحج / ( 108 ) ـ باب : إشعار البدْنِ / حديث رقم : 1699 / ص : 192 .
· المعنـــى الإجمالــي للحديــث :
كـان النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يعظـم البيـت العتيـق ويقدسـه .
فكـان إذا لـم يصـل إليـه بنفسـه بعـث إليـه ـ أي إلـى البيـت الحـرام ـ الهـدي ، تعظيمًـا لـه ، وتوسـعة علـى جيرانـه ـ أي : علـى جيـران البيـت الحـرام ـ .
وكـان إذا بعـث الهـدي أشـعرها وقلدهـا ، ليعلـم النـاس أنهـا هـدي إلـى البيـت الحـرام ، فيحترموهـا ، ولا يتعرضـوا لهـا بسـوء .
فذكـرت ـ أم المؤمنيـن ـ عائشـة ـ رضي الله عنها ـ تأكيـدًا للخبـر ـ : أنهـا كانـت تفتِـل قلائدهـا .
وكـان ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إذا بعث بهـا ـ وهـو مقيـم فـي المدينـة ـ لا يجتنـب الأشـياء التـي يجتنبهـا المُحْـرِم مـن :
النسـاء ، والطيـب ، ولبـس المخيـط ونحـو ذلـك ، بل يبقـى مُحِـلاًّ لنفسـه كل شـيء كـان حـلالاً لـه .
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام / ج : 2 / باب : الهدي / ص : 175 .
· مــا يؤخــذ مــن الحديــث :
1ـ اسـتحباب بعـث الهـدي إلـى البيـت الحـرام مـن البـلاد البعيـدة ولـو لـم يصحبهـا المُهْـدِي ، لأن الإهـداء إلـى البيـت صدقـة علـى مسـاكين الحـرم ، وتعظيـم للبيـت ، وتقـرُّب إلـى الله تعالـى بإراقـة الدمـاء فـي طاعتـه .
2ـ اسـتحباب إشـعار الهـدي وتقليـده ، بالقـرب ، والنعـال ، ولحـاء الشـجر ، ممـا هـو خـلاف عـادة النـاس ، ليعرفـوه فيحترمـوه .
3 ـ أن المُهْـدِي لا يكـون محرمًـا ببعـث الهـدي ، لأن الإحـرام هـو نيـة ونُسـك .
4 ـ أن المُهْـدِي لا يَحْـرُم عليـه أيضًـا مـا يحـرم علـى المحـرِم مـن محظـورات الإحـرام .
قـال ابـن المنـذر : قـال الجمهـور : لا يصيـر بتقليـد الهـدي مُحْرِمًـا ، ولا يجـب عليـه شـيء .
وقـال بعـض العلمـاء : وإلـى ذلـك ذهـب فقهـاء الأمصـار .
5 ـ جـواز التوكيـل فـي سَـوْقِهَا إلـى الحـرم ، وذبحهـا وتفريقهـا .
6ـ أن الشـرع يكـون حيـث المصلحـة المحضـة ، أو المصلحـة الراجحـة . فـإن إشـعار الإبـل والبقـر المهـداة ، فيـه تعذيـب لهـا .
ولكـن مصلحـة إشـعارها ، لتعظيمهـا ، وإظهـار طاعـة الله فـي إهدائهـا ، راجـح علـى هـذه المفسـدة اليسـيرة .
7ـ أن الأفضـل بعثهـا مقلـدة مـن أمكنتهـا ، لا تقليدهـا عنـد الإحـرام ، لتكـون محترمـة علـى مَـن تمـر بـه فـي طريقهـا ، وليحصـل التنافـس فـي أنـواع هـذه القُـرب المعتـدي نفعهـا .
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام / ج : 2 / باب : الهدي / ص : 176 .
وممـا يتفـرع علـى هاتيـن القاعدتيـن :
أ ـ درء المفاســـدِ مُقــــدم علـــى جلـــب المصالـــح
ب ـ درء المفاسـد الراجحـة مُقـدم علـى جلـب المصالـح المرجوحـة
ج ـ تقديـم المصلحــة الراجحــة علـى المفســـدة المرجوحـــة
هـذه القواعـد نظيـر مـا سـبق ، والمـراد :
أ ـ أنـه إذا تعارضـت مفسـدة ومصلحـة ، وتسـاويا ، فـإن دفـع المفسـدة مقـدم علـى جلـب المصلحـة .
وذلـك لأن وجـود المفسـدة يؤثـر تأثيـرًا سـلبيًّا علـى تحصيـل المنفعـة ، لـذا قالـوا : " التخليـة قبـل التحليـة " ، أي إزالـة العقبـات مـن طريـق جلـب المصلحـة أو المنفعـة .
ودفـع المفسـدة مُقـدم علـى جلـب المنفعـة لحكمـة أخـرى حاصلهـا : أن المفسـدة إذا لـم تُدفـع فـي أول أمرهـا ربما تتفاقـم وتنتشـر وتجر إلى مفاسـد أخـرى ، وتحُـول بين جلـب المنافـع الدنيويـة والأخرويـة 0
القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه / ص : 107 / بتصرف 0
فـإذا تسـاوت المصلحـة والمفسـدة ، ولـم ترجـح إحداهمـا ، فـدرء المفاسـد مقـدم علـى جلـب المصالـح لأن عنايـة الشـارع بتـرك المنهيـات آكـد مـن عنايتـه بفعـل المأمـورات .
* فعـن أبـي هريـرة ، قـال خطـب رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ النـاس فقـال : " ... ، فـإذا
أمرتكـم بالشـيء فخـذوا بـه مـا اسـتطعتم ، وإذا نهيتكـم عـن شـيء فاجتنبـوه " .
سنن النسائي [ المجلد الواحد ] تحقيق الشيخ الألباني / ( 24 ) ـ كتاب : مناسك الحج /
( 1 ) ـ باب : وجوب الحج / حديث رقم : 2619 / ص : 409 / صحيح .
فالمأمـورات قـال فيهـا صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم : " فخـذوا بـه مـا اسـتطعتم " ، فعلقهـا علـى الاسـتطاعة ، وذلـك باسـتفراغ الجهـد .
أمـا المنهيـات فقـال فيهـا صلـى الله عليه وعلى آله وسـلم : " فاجتنبـوه " . أي ابتعـدوا عـن المنهيـات تمامًـا .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
مثــال ذلـك : يمنــع الشـخص مـن التصـرف فـي ملكـه إذا كـان تصرفـه يضـر بجـاره ضـررًا فاحشًـا ؛ لأن درء المفاسـد عـن جـاره ـ مقـدم ـ وأولـى مـن جلـب المنافـع لنفسـه .
الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية ... / جمعة صالح محمد / ص : 47 .
ب ـ أنـه إذا تعارضـت مفسـدة ومصلحـة ، وكانـت المفسـدة أعظـم مـن المصلحـة ، وجـب تقديـم دفـع المفسـدة ، وإن اسـتلزم ذلـك تفويـت المصلحـة ، لأن اعتنـاء الشـارع بالمنهيـات أشـد مـن اعتنائـه بالمأمـورات ، كمـا سـبق توضيحـه عاليـه .
ومـن شـواهد هـذه القاعـدة :
قولـه تعالـى : { يَسْـأَلُونَكَ عَـنِ الْخَمْـرِ وَالْمَيْسِـرِ قُـلْ فِيهِمَـا إِثْـمٌ كَبِيـرٌ وَمَنَافِـعُ لِلنَّـاسِ وَإِثْمُهُمَـا أَكْبَـرُ مِـن نَّفْعِهِمَـا ... } . سورة البقرة / آية : 219 .
فحـرم الله الخمـر والميسـر ، لأن مفسـدتهما أعظـم مـن مصلحتهمـا .
قـال الحافـظ ابـن كثيـر :
" أمـا إِثمهمـا فهـو فـي الديـن ، وأمـا المنافـع فدنيويـة مـن حيـث إن فيهـا نفــع البـدن وتهضيـم الطعـام ، وإخـراج الفضـلات ، ولـذة الشـدة التـي فيهـا ، وكـذا بيعهـا والانتفـاع بثمنهـا ، ومـا كـان يقمِّشـة بعضهـم مـن الميسـر فينفقـه علـى نفسـه أو عيالـه ، ولكـن هـذه المصالـح لا تـوازي مضرتـه
ومفسـدته الراجحـة لتعلقهـا بالعقـل والديـن ، ولهـذا قـال تعالـى : " وَإِثْمُهُمَـا أَكْبَـرُ مِن نَّفْعِهِمَـا " .
القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 339 / بتصرف .
ج ـ أمـا إذا دار الفعـل بيـن مصلحـة ومفسـدة ، وكانـت المصلحـة أرجـح مـن المفسـدة ، حصلنـا المصلحـة مـع التـزام المفسـدة . وهـذا مُفـاد القاعـدة التاليـة :
تقديـم المصلحـة الراجحـة علـى المفسـدة المرجوحـة
ومـن دلائـل هـذه القاعـدة :
ـ قـول الله عـز وجـل : { وَلَكُـمْ فِـي الْقِصَـاصِ حَيَـاةٌ يَـاْ أُولِـيْ الأَلْبَـابِ لَعَلَّكُـمْ تَتَّقُـونَ } .
سورة البقرة / آية : 179 .
* قـال ابـن القيـم ـ رحمه الله ـ :
" ... فلـولا القصـاص لفسـد العالَـم ، وأهلـك النـاس بعضهـم بعضًـا اسـتبداءً واسـتيفاءً ، فكـان القصـاص دفعًـا لمفسـدة التَّجَــرِّي علـى الدمـاء بالجنايــة أو بالاسـتيفاء ، وقـد قالـت العــرب فـي جاهليتهـا :
<< القتـل أنفـع للقتـل >> ، وبسـفك الدمـاء تُحقـن الدمـاء " . ا . هـ . ( 2 / 91 ) .
القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 343 .
وقـال الشـيخ عبـد الرحمـن بـن ناصـر السـعدي فـي تفسـير هـذه الآيـة :
" وَلَكُـمْ فِـي الْقِصَـاصِ حَيَـاةٌ " . أي : تنحقـن بذلـك الدمـاء ، وتنقمـع بـه الأشـقياء ، لأن مـن عَـرف أنـه مقتـول إذا قَتـل ، لا يكـاد يصـدر منـه القتــل ، وإذا رؤي القاتـل مقتـولاً انذعـر بذلـك غيـره وانزجـر ، فلـو كانـت عقوبـة القاتـل غيـر القتـل ، لـم يحصـل انكفـاف الشـر ، الـذي يحصـل بالقتـل ، وهكـذا سـائر الحـدود الشـرعية ، فيهـا مـن النكايـة والانزجـار ، ما يـدل علـى حكمـة الحكيـم الغفـار ، ونكَّـر سـبحانه ـ أي جعلهـا نكـرة ـ " الحيـاة " لإفـادة التعظيـم والتكثيـر .
ولمـا كـان هـذا الحكـم ، لا يعـرف حقيقتـه إلا أهـل العقـول الكاملة ، والألباب الثقيلـة ، خصهـم
بالخطـاب دون غيرهـم ، وهـذا يـدل على أن الله تعالـى يحـب مـن عبـاده أن يعملـوا أفكارهـم وعقولهـم ، فـي تدبـر مـا فـي أحكامـه ، مـن الحِكَـم ، والمصالـح الدالـة علـى كمالـه ، وكمـال حكمتـه وحمـده ، وعدلـه ورحمتـه الواسـعة ، وأن مـن كـان بهـذه المثابـة ، فقـد اسـتحق المـدح بأنـه مـن ذوي الألبـاب الذيـن وجـه إليهـم الخطـاب ، وناداهـم رب الأربـاب ، وكفـى بذلـك فضـلاً وشـرفًا لقـوم يعقلـون .ا . هـ .
ومـن دلائـل هـذه القاعـدة أيضًـا :
ـ مـا ترجـم لـه البخـاري بـ : بـاب مـا يجـوز مـن اغتيـاب أهـل الفسـاد والريـب :
..... أن عائشـة ـ رضي الله عنها ـ أخبرتـه قالـت : اسـتأذن رجـل علـى رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقـال : " ائذنـوا لـه بئـس أخـو العشـيرة أو ابـن العشـيرة " . فلمـا دخـل ألان لـه الكـلام 0 قالـت ـ قلـتُ : يـا رسـول الله قلـتَ الـذي قلـتَ ثـم ألنـت لـه الكـلام ؟ قـال : " أي عائشـةُ إن شــر النـاس مـن تركَـهُ النـاسُ أو ودعـه النـاس اتقـاء فُحْشِـهِ " .
صحيح البخاري . متون / ( 78 ) ـ كتاب : الأدب / ( 48 ) ـ باب : ما يجوز
من اغتياب أهل الفساد والريب / حديث رقم : 6054 / ص : 714 .
ووجـه الدلالـة منـه : أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ تـرك الكـلام فـي وجـه الرجـل لمصلحـة التأليـف ، ولئـلاَّ ينفـر عـن الإسـلام ، ورجـاء إسـلام قومـه ؛ لأنـه كـان سـيدَهم .
ويسـتفاد منـه أيضًـا جــواز غيبــة الفسَّـاق (1) للمصلحـة الراجحـة مـن نصـح النـاس وتحذيرهـم مـن شـرهم . ويدخـل فـي هـذا جـرح الـرواة لمصلحـة حفـظ السـنة مـن الوضـع .
o فائـــدة مســـتخلصة :
ـــــــــــــــ
مـا حرمـه الشــارع فإنمـا حَرَّمـه لمـا يتضمنـه مـن المفسـدة الخالصـة أو الراجحـة ، فـإن كانـت
مصلحـة خالصـة أو راجحـة لـم يحرمـه ألْبتـة .
القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموَقعين / للعلامة : ابن قيم الجوزية /
إعداد : أبي عبد الرحمن ... / ص : 339 : 346 / بتصرف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق